بنظرة عابرة على البطاقات الشخصية للذين حاولوا الانتحار حرقا خلال الأيام القليلة الماضية والمستمرة حتى الآن، يتبين أن محل إقامتهم جميعا ما بين القاهرة والإسماعيلية والإسكندرية والغربية والقليوبية، وغيرها من المحافظات الساحلية والوجه البحرى والعاصمة، فى الوقت الذى خلت فيه محافظات الصعيد من أى حالة انتحار.
والسؤال الذى يتبادر إلى الأذهان بقوة: ما السر الذى يدفع مواطنى محافظات الوجه البحرى والمدن الساحلية والقاهرة للانتحار حرقا؟ فى حين لم يفكر مواطنو محافظات الصعيد والمحافظات الحدودية فى الإقدام على إزهاق أرواحهم "بجركن بنزين أو كيروسين" رغم التفاوت الكبير فى مستوى المعيشة والدخل بين مواطنى الوجه البحرى ونظرائهم فى الوجه القبلى؟!
المنظّرون كعادتهم يخرجون علينا لتحليل هذه الظاهرة، بأن البطالة والفقر والظلم وراء دفع هؤلاء إلى التخلص من حياتهم وهجر الدنيا إلى الآخرة، يقابلهم المسئولون الرسميون بتأكيدات أن هؤلاء جميعا مصابون بأمراض نفسية وعصبية دفعتهم إلى محاولة الانتحار.
وما بين رؤى المنظرين وتأكيدات المسئولين الرسميين هوة كبيرة، ونقص حاد فى المعلومات، وجهل فى معرفة التركيبة السكانية لمحافظات ومدن وقرى مصر المختلفة..
فمحافظات الصعيد تتسم بتركيبة سكانية يغلب عليها العائلة والقبيلة والعادات والتقاليد، بجانب الاهتمامات الحياتية المتشابهة والتى قد تصل إلى حد التطابق، وزعماء العائلات والقبائل يلعبون دورا محوريا فى سير الأمور الحياتية، بما لديهم من قدرة على الاحتواء وحل المشاكل مهما كان حجمها، وبث روح العزيمة والحميمية فى العلاقات، والتأكيد على أن كل فرد من أفراد العائلة أو القبيلة رقم صحيح فى المعادلة الحياتية لا يمكن الاستغناء عنه، إلى جانب أن الرجل الصعيدى لديه قناعة بأن عدم قهره للظروف مهما كان حجمها يعد نوعا من أنواع الهزيمة، خاصة الظروف المعيشية، وأن محاولة التنصل من مسئولياته وأعبائه الحياتية تجاه نفسه وعائلته بأى وسيلة من وسائل التنصل بما فيها التخلص من حياته، يعد طعنا فى رجولته غير مقبول بالمرة.
وبالانتقال إلى المحافظات الساحلية والقاهرة بشكل خاص، ومحافظات الوجه البحرى بشكل عام، نجد أن النعرة القبلية، والالتزام العائلى بين المواطنين يقل حتى يتلاشى فى المحافظات والمدن الكبرى، ويسود بديلا عنها الفردية الحياتية وعدم القدرة على التكيف بالمحيطين، وغياب القدوة وأصحاب القرارات الرشيدة، ويسيطر على المواطن "البحراوى" شعور بأنه غير مفيد، والإحساس المفرط بالظلم، وأن من حوله يتخلون عنه فى دوائر العلاقات المختلفة، بداية من الجالسين على المقاهى البلدى وحتى زملاء العمل.
ووسط صخب هذه المدن، والسرعة المفزعة فى سباق الحياة، والغياب التام فى العلاقات الحميمية، يصاب الإنسان بمشاكل نفسية مؤلمة تدفعه إلى محاولة التنصل من أعبائه ومسئولياته تجاه نفسه أولا ثم عائلته ثانيا، عن طريق الانتحار.
ووسط هذا التفاوت الكبير فى التركيبة السكانية بين محافظات الصعيد والوجه البحرى والساحلى والحدوى، فإن الحكومات المصرية المتعاقبة لم تكلف نفسها عناء دراسة مثل هذه التركيبة بشكل علمى، وتقنين التعامل مع مواطنيها، وتخلت عن مسئولية امتلاك زمام المبادرة لحل المشاكل، وارتضت ببهجة وسرور غريبين، أن تطبق سياسة رد الفعل فقط..
فلا تتحرك لحل مشكلة ما إلا بعد تفاقمها وتحولها من خانة المشكلة العادية إلى مرتبة الكارثة، فتبدأ التحرك على الأنقاض وذرات الرماد، فلا تستطيع جمع الرماد المخلف من الحرائق، والتى تناثرت ذراته مع الرياح، فتغرق فى التفاصيل حتى أذنيها، بجانب أن بعض من يحملون الحقائب الوزارية، والذين يتبوأون مقاعد المسئولية عاشقون للأفكار المعلبة فى حل المشاكل، وتدابير الأمور، ويفتقدون للأفكار "الفريش"، لذلك تراكمت المشاكل، ونجم عن هذا التراكم، خلق بيئة قابلة لانتقال فيروسات معدية قاتلة.
نقلا عن اليوم السابع