هذا المقال هو إستكمال لما نـُشر تحت عنوان "إختصار الإسلآم" الجزا الأول
وليس ما نقلته من خطبة الجمعة لهذا الشيخ هو أسوأ ما قاله ، فقد قال فى خطبته يوم الحادى عشر من يناير، فى الوقت الذى كان فيه عشرات الآلآف من شباب مصر وشيوخها الذين يطالبون بالتغيير يؤدون صلآتهم فى ميدان التحرير ويدعون الله تعالى أن يعجل بتخليص مصر من الظلم والظالمين ، فى هذا الوقت كان الشيخ يقول من على منبره :
" إن الذين بدؤوا بتلك الحركة (حركة التغيير) لم تنقصهم الحرية يوما ما ، فهؤلآء متحللون فى الجملة ، وهؤلآء منفكون فى العادة ، وهؤلآء لآ يقيدهم قيد ، بدليل أن البنين والبنات – ولآ شك أن لهم أسرا - ينامون فى العراء متجاورون أو غير متجاورين ، ويبيتون هكذا مع بعضهم بعضا ، ولهم أسر لآ تقيد عليهم حرية البيات فى الخلآء فى عراء."
فمن ذا الذى إعتصم فى الميدان وبات فيه ؟ ألم يكونوا من هؤلآء الشباب الذين وصفهم الشيخ بأنه لآتنقصحم الحرية فهم متحللون من قل قيود؟ ولا أعرف ما إذا كان أحد قد رأى من هؤلآء الشباب – بنين وبنات – من يبيتون مع بعضهم البعض عراة فى الخلآء كما يقول الخطيب من على المنبر فى صلآة الجمعة؟!
وليس هذا أيضا هو أسوأ ماقاله الشيخ ، فقد قال ما هو أسوء منه عندما حاول أن يستكمل توضيحه للتغيير الذى يجرى فى مصر وما يريده هؤلآء الشباب بانه يهدف الى : "أن تُـعدد المرأة الأزواج بدل أن يعدد الرجل الزوجات ، وأن نقبل البغاء ونرفض الزواج".
إننى لم أقرأ أسوأ من هذا تضليلآ وإستخفافا بعقول البشر ، وبعد هذه الخطبة التى قذف فيها الشيخ عشرات الآلآف من أبناء الشعب المصرى قذفا شرعيا يجلد عليه ، أنهاها بدعاء الله عز وجل : "اللهم اكبت الحاقدين ، اللهم اكبت أصحاب الفتنة وأذلهم ، واكشف سترهم ومكن منهم" ، وكان يؤم يومئذ مئات المصلين الذين أمّـنوا على دعائه ، ثم بعد الصلآة خرجوأ من المسجد وهم يدعون لشيخهم بطول العمر و حسن الختام. ومن ثم يقوموا بنشر هذه الخطبة العصماء على صفحته فى الشبكة العنكبوتية ومن هذه الصفحته تنتقل الخطبة إلى مئات الصفحات الأخرى ولآ ينجوا منتدى قريتنا من نشر هذا الهراء.
وحتى لآ يظن القارئ أنه رجل جاهل فلنقرأ جزءأ من سيرته الذاتية المنقولة من صفحته ، حيث جاء فيها :
وقد حصل حفظه الله على بكالوريوس طب وجراحة من جامعة الأزهر ، وعلى ليسانس الآداب قسم اللغة العربية شعبة الدراسات الإسلامية ، وعلى درجة الماجستير في علم الحديث بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى عن بحث فى "ضوابط الرواية عند المُحدِّثين" ، وعلى درجة الدكتوراه - العَالِمية - في علم الحديث بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى في بحث عن " الرواة المُبدَّعُــون من رجال الكتب الستة" ، ومعه (حفظه الله) إجازة في أربعين حديث بسنده إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذه الأحاديث مسماة ب "الأربعين البُلدَانِيَّة" و قد تأثر بطائفة من فحولة العلماء ومحققيهم، وقفا أثرهم، ومنهم: شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد ابن تيمية، وتلميذه البار، العالم الرباني وشيخ الإسلام الثاني؛ ابن قيم الجوزية.
إذا فيصبح السؤال ، كيف يقع هذا العالم الجليل فى هذا الخطأ؟
إنه إختصار الإسلآم على أمور العقيدة والجهل التام بفقه الواقع
و إذا تذكرت أيها القارئ النبيه بأن الإسلآم ليس عقيدة فقط ، بل هوعقيدة وسلوك وخلق أيضا بجانب أنه عبادة ومعاملآت كذلك ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلآق" أو كما قال ، وأن ماقاله الشيخ ليس له علآقة بمكارم الأخلآق ، عرفت مدى هذا الإختصار.
وإليك أيضا مثال آخر حتى تضح الصورة بشكل أكبر:
أحد المشايخ الفضلآء المعروفين جدا ألقى خطبة حول موقعة الجمل ، وهى مسجلة ومنشورة فى الشبكة العنكبوتية أيضا ، قام بالحديث عن موقعة الجمل ردا على إحد مخرفى الشيعة دفاعا عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى عاصروا هذا الحدث واشتركوا فيه من أمثال الإمام على وطلحة والزبير والقعقاع رضى الله تعالى عنهم ، وذكر حادث التحكيم المشهور الذى إشترك فيه أبا موسى الأشعرى وعمرو بن العاص ، فبين خطأ القول الذى تردد من سب إبى موس لعمرو، ورد عمرو عليه. ولآ شك بأن هذا عمل يشكر الشيخ عليه لأنه قطعا لألسنة هؤلآء الروافض الشيعية.
ولكن الشيخ لم يسرد الوقائع من حيث هى وقائع ، وقام بتحليلها لنأخذ منها العبرة التى تفيدنا فى تشكيل حياتنا الراهنه ، بل كان تركيزه على الأشخاص والدفاع عنهم فى مواجهة الجهل الشيعى الذى لآ هم له هو أيضا إلآ مهاجمة الصحابة وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة ، أى أن الاحداث التاريخية أختصرت وتشخصت، أعنى أن الأشخاص أصبحو هم المحور الذين يدور حوله الحديث.
أما الحدث نفسه من حيث هو حدث والعبر والدروس التى نستفيد منها فى حياتنا المعاصرة فليست محل إهتمام وهذا إتجاه عام بين المسلمين وليس خاصا بالشيخ الجليل ، مثلآ : كيف يستطيع رجل واحد وهو "عبد الله بن سبأ" المزعوم (المزعوم لأن هناك من يشك فى حقيقة هذا الشخص ، ويعتقد أنه إسم حركى لمحمد بن أبى بكر رضى الله عنه) ، كيف يستطيع هذا الرجل أن يثير المسلمون فى مصر والعراق على الخليفة المظلوم حتى يسيروا من بلدانهم الى المدينة ويقوموا بقتل أمير المؤمنين؟ كيف ولماذا لم يستطع المسلمون حل الخلآفات والمشاكل التى نشأت فى أواخر حكم ذى النورين الخليفة عثمان بن عفان ، المبشر بالجنة ، بالشكل الذى لآ يؤدى لقتله؟
وللإختصار آتى على أهم الأسئلة وهو: لماذا لم يفكر المسلون أصلآ فى وسيلة تمكنهم من نقل السلطة من شخص لآخر بشكل سلمى يجنب المسلمون ويلآت الحرب وقتل المسلمون بعضهم لبعض؟
ولكى أوفر على القارئ التفكير فى إجابة أقول بأن الوقت والخبرة والتجربة التى مر بها المسلمون حتى هذه اللحظات لم تكن كافية للوصول إلى حل غير الذى كان.
والأهم هو أن الشريعة الإسلآمية لم تكن قد تطورت بعد لتعالج مثل هذه المسائل. وهذه المسئلة فى حد ذاتها تحتاج الى بحث خاص مطول.
ونحن لم نرى أن هناك فكر سياسى أسلآمى يتعلق بمثل هذه الأمور قد تكون ، ومازلنا لآ نجد فى الشريعة الإسلآمية حل لمثل هذه المسائل حتى وقت كتابة هذه السطور.
السبب هو ما ذكرته من كلآم الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الحميد أبو سليمان ، إنه الفصام النكد بين السياسة والشريعة ، فلم تجد السياسة منظرين لها ، ولم يهتم علماء الشريعة بشأن السياسة والسياسيين.
إنه إختصار الإسلآم بفصل جانب هام جدا عنه من جوانب فرع المعاملآت.
وإذا تتبعنا تاريخ الفكر الإسلآمى فسوف نجد أنه دخل سريعا فى طريق مغلق أدى به إلى غلق باب الإجتهاد الذى أوصل المسلمون إلى ما سُمى فيما بعد "بعصر الإنحطاط".
وإليك مثل بسيط يشير الى هذا وهى حادثة ذكرها إبن كثير فى كتابه البداية والنهاية ،نشر دار الريان ، 1988 ، الجزأ العاشر ، ص. 187 وما بعدها ،
" بعد ذكر أسماء رواة هذه الواقعة عن القاضى أبا يوسف الذى كان قاضى القضاة فى زمن هارون الرشيد ، وإبا يوسف كان ، تلميذا للإمام أبا حنيفة ، قال : بيما أنا ذات ليلة قد نمت فى الفراش ، إذا رسول الخليفة يطرق الباب ، فخرجت منزعجا فقال : أمير المؤمنين يدعوك ، فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى إبن جعفر فقال الرشيد : إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلم يفعل ، أو يبيعنيها ، وإنى أشهدك إن لم يجيبنى إلى ذلك قتلته .
فقلت لعيسى : لم لم تفعل ؟ فقال : إنى حالف بالطلآق والعتاق وصدقة مالى كله أن لآ أبيعها ولآ أهبها . فقال لى الرشيد : فهل له من مخلص ؟ فقلت : نعم يبيعك نصفها ويهبك نصفها. فوهبه النصف وباعة النصف الآخر بمائة ألف دينار ، فقبل منه ذلك وأُحضرت الجارية ، فلما رآها الرشيد قال : هل لى من سبيل عليها الليلة؟ فقلت إنها مملوكة ولآ بد من إستبرائها (إطلآق سراحها وتبرأتها ) ، إلآ أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لآ تستبرأ . قال فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار ، وأمر لى بمائت ألف درهما وعشرين تختا من ثياب ، وأرسلت إلى الجارية بعشرة ألآف دينار. "
وليصرف القارئ ذهنه عن فهم الأحكام الفقهية التى جائت فى هذه القصة ، وليفكر فيما كان يشغل بال أمير المؤمنين فى هذه اللليلة ، وكيف أن قاضى القضاة وجد مخرجا لحل هذه المشكلة التى إعترضت أمير المؤمنين ، حيث قال صاحب الجارية (عبدة) أنه حلف ألآ يبيعها وألآ يهبها إحدا ، فكان الحل كما رآه القاضى أن يفترض أنه قسمها إلى قسمين قسم يبيعه لأمير المؤمنين وقسم يهديه له ، وبالتالى لآ يكون قد حنث فى يمينه حيث لم يبع الجارية بل باع نصفها فقط ، ولم يهدها لأنه أهدا نصفها أيضا ، فالجارية كالعبد تعامل كأنها شيء من الأشياء.
وانا أعرف أن هناك من القراء من سيتهمنى أو سيتهم إبن كثير نفسه الذى سرد هذه القصة ولن يصدقها ، وقد فعلت أنا نفسى ذلك عندما بدأت فى دراسة التاريخ الإسلامى السياسى ، لآن هذه القصص تبدوا لنا وكأنها من وحى خيال مريض ، وخاصة أنه قيل بأن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان يصلى فى اليوم مئة ركع تطوعا.
فكيف نفسر ذلك؟
إنه إختصار الإسلآم
ولم يرتكب القاضى أبا يوسف خطأ فقهيا ، فإن الحل الذى وصل اليه صحيح من وجهة نظر الشريعة ، ولكن ألهذا أنزل كتاب الله ، ولهاذا جاهد رسول الله؟
ومن الممكن أيضا أن نقول أن الخليفة لم يفعل شيئا محرما.
ولكن أين هذا من الخليفة الذى كان يقضى الليل فى إستطلآع أحوال رعيته ، وكان يبكى بكاءا حارا لأنه يتذكر أن الله تعالى سائله عن بغلة إذا عثرت فى أرض العراق لم لم تعبد لها الطريق.
شتان بين أمير للمؤمنين كعمر بن الخطاب الذى كان همه تفقد أحوال الرعية ويحمل لهم الطعام بنفسه إذا وجد فيهم جياع ، وبين أمير آخر للمؤمنين مشكلته كيف يحصل على الجارية ، وما هو السبيل إليها فى ليلته هذه؟
إنه إختصار الإسلآم.
بقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالى فى كتاب "إحياء علوم الدين" الجزأ الأول طبعة دار القلم فى صفحة رقم 24 : "وحكى أن أبا يوسف القاضى كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ويستوهب مالها إسقاطا للزكاة ، فحكى ذلك لأبى حنيفة رحمه الله فقال : ذلك من فقهه. وصدق (أبو حنيفة) فإن ذلك من فقه الدنيا ولكن مضرته فى الآخرة أعظم من كل جناية ، ومثل هذا هو العلم الضار."
وتعبير "فقه الدنيا" الذى ذكره الإمام الغزالى لآ يعنى فقه الواقع ، ولكن الفقه الذى يستعمل فقط للحصول على مكاسب دنيوية ، ولكن مضرته فى الآخرة أشد من كل جناية يرتكبها الإنسان ، كما ذكر الإمام الغزالى.
إنه إختصار لإسلام وقصره على مكاسب دنيوية.
وإذا كان الحديث حتى الآن عن إختصار الإسلآم ، فما هو الإسلآم إذا؟
لآ بد لنا أن نفهم الإسلآم بشكله الشامل الكامل ، وأن نطبقه بكماله وشموله ، ولمن كيف؟
إذا تذكرنا أن دين الله من أدم عليه السلآم حتى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كان دائما هدفه تشكيل الحياة وتغييرها لتكون فى كل دقائقها موافقة لما أراده الله تعالى ، حتى لآ يضل الإنسان ويشقى ، ولأن الله تعالى لآ يريد إلآ مصلحة الإنسان فى الدنيا والآخرة ، ولذلك لم يحرم شيئا قط فيه مصلحة للأنسان ، ولم يأمر بشيئ قط فيه ضرر للإنسان.
وإذا تذكرنا أنه لآ يمكن أن ينشأ نظام إجتماعى بشكل عام إلا إذا سبقه تصور إعتقادي.
فلآ بد أن نفهم الإسلآم كما هو على حقيقته ، وهو أن الإسلآم مجموعة متكاملة من الأحكام الشرعية تهدف إلى جلب المصالح ودرأ المفاسد ورفع الحرج عن الناس.
هذه الأحكام تتكون من :
1 - الأحكام الإعتقادية : وهى الأحكام التى تبين فيما يجب أن يعتقده الإنسان حتى يصبح مسلما وأولها شهادة أن لآ إلاه إلآ الله وأن محمدا رسول الله.
2 - الأحكام الخلقية : وهى الأحكام التى تبين الصفات التى يجب أن يتمتع بها المسلم أو التى ينبغى أن يتخلى عنها حتى يمكن أن نطلق على سلوكه بأنه إسلآميا .
3 – احكام العبادات : وهى الأحكام المتعلقة بالأعمال التى أراد الله تعالى أن نتعبد بها ، وبيان كيفية هذه العبادة كالصلآة والزكاة والصيام والحج.
4 – أحكام المعاملآت : ، وهى الأحكام المتعلقة بعلآقات البشر جميعا بعضهم ببعض مهما كانت ديانتهم وعقائدهم ، وسواءا كانوا أفرادا أو جماعات.
ولقد رأينا أن الخطاب الدينى فى أغلب الأحيان قد إختصر حديثه على جزء قليل من هذه الأحكام ، ويمكننا أن نلاحظ ذلك فى كل وقت إذا دققنا السمع. و إذا قمنا بتحليل مفصل للأحكام المعاملآت فسوف يتضح هذا بشكل أفضل :
فكما ذكرت آنفا يمكن تقسيم أحكام المعاملآت إلى :
1 – أحكام المعاملآت الخاصة
2 – أحكام المعاملآت العامة
وهو تقسيم لآ تجده فى كتب الفقه ، والسبب فى ذلك هو بإختصار :
أولآ تقسيم العلوم إلى :
1 - علوم شرعية : كعلم الكلآم وعلم أصول الدين أو علم العقيدة ، وعلم الأخلآق ، وعلم الفقه ، وعلم أصول الفقه ، وعلوم الحديث ، وعلوم القرآن ، وعلوم اللغة العربية وما إلى ذلك ،
2 - وعلوم غير شرعية : كعلم الإقتصاد ، وعلم الإجتماع ، وعلم القانون ، وعلم السياسة وما الى ذلك
ثانيا : إقتصار فئة من الناس على دراسة العلوم الشرعية ، وإقتصار فئة أخرى على دراسة العلوم غير الشرعية
وقد أدى هذا إلى مشكلةكبرى فى مناهج وطرائق الفكر الإسلآمى ، وهى فصل علوم الدين عن علوم الحياة التى ينبغى أصلآ للدين أن يقوم بإعادة هيكلتها وتشكيلها لتوافق ما أمر الله تعالى به وتحقيق مقاصد الشريعة الإسلآمية.
وهكذا أصبح لدينا طبقة تسمى رجال الدين أو المشايخ ، يحسنون الحديث فى الدين المختصر ، ولكن عندما يتعلق الأمر بالتطبيق والحديث عن أمور الدنيا ، تسمع منهم كلآما من قبيل هذا الكلآم حول الغزو أو التظاهر فى ميدان التحرير ، وما فتوى إرضاع الكبير منك ببعيد ، وأصبح رجال الدين لآ يخاطبون العقول إلآ نادرا ، إنما يخاطبون العواطف والمشاعر ، وأصبح من يستمع إليهم من الشباب لآ يستمعون بقصد التعلم والفهم ، إنما رغبة فى النشوة والإعجاب ، مثل هؤلآء الذين يستمعون إلى قصص أبو زيد الهلآلى و عنترة بن شداد.
وإمعانا فى التأثير على عواطف الناس ، وإبهارهم ، أصبح لهذه الطبقة ممن يسمون برجال الدين لباس خاص ومظهر معين ، يستوى فى ذلك رجال الدين المسيحى ورجال الدين الإسلآمى ، وربما تقول لى إنه إتباع للسنة، فسوف أقول لك حسنا إنه إتباع لجانب من السنة ، سنة مختصرة كما أُختصر الدين، أليس من السنة أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" ؟ وإذا قلت لى بعض السنة أفضل من تركها كلها ، فأقول لك وهل بعض الدين أفضل أم الدين كله؟
ونعود مرة أخرى إلى أحكام المعاملآت التى قسمتها إلى أحكام المعاملآت الخاصة ، وأحكام المعاملآت العامة ، فأترك الأولى الآن وأركز على الثانية.
وبالحديث عن أحكام المعاملآت العامة نكون قد خرجنا من مجال عمل ومعرفة رجال الدين التقليديين ، لندخل إلى مجال يحتاج إلى متخصصين فى غير العلوم الشرعية . وحتى لآ أفهم خطأ : أنا لآ أقر أساسا هذا الفصل فى العلم والمعرفة بين ماهو علم شرعى وما هو ليس بعلم شرعى وأنادى بوحدتهما ، ومع ذلك يمكن التخصص فى إى علم منهما ، وعلى الإنسان ألآ ينسى أن تخصصه فيما تخصص فيه ، وهو العلم الذى يمكن أن يتحدث فيه عن علم ، وللعلوم الأخرى من هم متخصصون فيها ، وكل يتحدث بشكل أساسى فيما تخصص فيه.
وسوف أضرب فى النهاية مثلآ لأحد العلماء الذين جمعوا بين هذه المعرفة الشرعية وغير الشرعية..
وحتى نفهم ماهية أحكام المعاملآت بالضبط ، فلا مفر من النظر إليها من وجهة نظر القانون. فالقانون ينقسم إلى قانون خاص وقانون عام . وأحكام المعاملآت الخاصه هى مجال القانون الخاص ، وأحكام المعاملآت العامة هى مجال القانون العام ، ولذلك فسوف أتكلم الآن على تقسيم القانون العام ، وهو بالضبط تقسيم أحكام المعاملآت العامة ، وما ينبغى أن تكون عليه.
يقسم القانون العام بشكل إجمالى وبعيدا عن التفصيل الدقيق الذى يقوم به رجال القانون إلى:
1 – القوانين المتعلقة بهيكل الدولة وتكوينها ووظيفتها والعلآقة بين مؤسساتها وكيفية إصدار القوانين
2 - القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان وحقوق المواطنين تجاه الدولة ، والقوانين التى تلزم الدولة بحماية حقوق الإنسان والمواطنين (وقد قسمت هذه الحقوق بين حقوق الإنسان وحقوق المواطنين لأن الحقوق المتعلقة بالإنسان هى حقوق يتمتع بها كل إنسان سواء كان من رعايا الدولة أو لم يكن من رعاياها ، كالسائحين والطلآب الأجانب وغيرهم ، أما حقوق المواطنين فهى الحقوق التى يتمتع بها كل مواطن من رعايا الدولة كحق الإنتخاب مثلآ)
3 - القوانين التى تنظم علآقة الدولة بأصحاب الأديان الأخرى ومنظماتهم ، كالمسيحيين واليهود
4 – القوانين المتعلقة بسير عمل الهيئات الحكومية والقوانين التى يخضع لها موظفى الدولة كموظفى الضرائب والجمارك وموظفى المكاتب الصحية ومكاتب المرور والأحوال الشخصية وغيرها فى علآقتهم بالمواطنين وإنجاز أعمالهم و متطلباتهم
5 – القوانين المنظمة لطرق تظلم المواطنين تجاه هذه المؤسسات ، والمنظمة لكيفية إجبار المواطنين لتأدية ما تطلبه منهم هذه المؤسسات
6 – القوانين المنظمة للعملية الإنتخابية على كل مستويات الدولة
7 – القوانين المنظمة لعمل الشرطة وعلآقتها بالمواطنين
8 – القوانين المتعلقة بحماية البيئة
9 - القوانين المتعلقة بسير العملية الإقتصادية فى الدولة
10 - القوانين المتعلقة بممارسة المهن المختلفة
11 – القوانين المتعلقة بتنظيم القضاء وحق التقاضى وتسيير المحاكم
12 – قوانين العمل
13 – قوانين الضمان الإجتماعى
14 – قوانين الضرائب
15- قوانين السير
16 – قانون العقوبات
17 – القانون الدستورى
18 – القوانين المتعلقة بالعلآقات والمنظمات والإتفاقات الدولية
وليس هذا إلآ بعض من هذا القانون العام ، وكان بإمكانى أن أكتب بدل كلمة "قوانين" أن أكتب كلمة"أحكام" فليس الحديث هنا إلآ حديثا عن أحكام المعاملآت العامة كما ذكرت أعلى.
فهل سمعت رجلآ ممن نسميهم رجال الدين أو علمائه أو مشايخه يتحدث فى مثل هذه الأمور؟
ولآ تقل لآ ، بل قل نعم ، فإن منهم من يتحدث فى مسائل الحدود والقصاص ، ومنهم من يتحدث فى أحكام الزكاة ، ومنهم من يتحدث فى التكافل الإجتماعى . ولكن أمامك المساحة كلها أو بعض منها التى تتعلق بجانب المعاملآت العامة التى هى جزأ أساسى من الدين الإسلآمى ، وبوسعك أن ترى وتحكم بنفسك إلى أى مدى تم إختصار الدين الإسلآمى ، وفى أى الأمور إختصر هذا الدين.
وما يترتب على هذا التقسيم من حديث يطول ، ولكن على أن أتوقف هنا ، فالحديث فى المستقبل لن يتوقف بإذن الله.
ولقد سمع كل منا عن كثير من فروع العلم والمعرفة بجانب علوم السياسة والقانون والتاريخ ، وهكذا . ولكن هناك أيضا من فروع العلم الكثير التى لم يسمع عنها إلآ المتخصصين ، فمن سمع مادة فلسفة القانون ، ومادة إجتماع القانون ومادة النظريات القانونية أو النظريات الإجتماعية أو النظريات السياسية ؟ من من العلماء والمشايخ والوعاظ يتحدث الى الجمهور فى هذه الموضوعات.
أما العلماء فإليك مثلا منهم : عالم جمع بين ما نسميه العلم الشرعى والعلوم التى يُقال عليها بأنها علوم ليست بشرعية ، لتعقد مقارنة بينه وبين الشيخ فلآن أو الشيخ علآن ، لترى ماذا يحدث لعلماء هذه الأمة ومن يتقدم منهم ومن يتأخر.
إنه فضيلة الشيخ الدكتور محمد فتحى الدرينى
هل سمعت إسمه؟ إجابتك معروفة ، إنها لآ ، فليس هناك من معرفته إلى سبيل ، إلا إذا كنت درست على يديه أو قرأت كتبه ، ومن يقرأ مثل كتبه الآن؟
أنظر ماذا درس هذا العالم الجليل والشهادات التى حصل عليها:
1 – ليسانس فى الشريعة من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر
2 – ليسانس فى الآداب قسم اللغة العربية من كلية الآداب جامعة القاهرة
3 – دبلوم فى التربية وعلم النفس من جامعة عين شمس
4 – العالمية مع الإجازة فى التدريس من كلية اللغة العربية جامعة الأزهر
5 – العالمية مع الإجازة فى تخصص القضاء الشرعى من كلية القانون والشريعة جامعة الأزهر
6 – دبلوم فى العلوم القانونية ، القانون الخاص والعام من معهد البحوث والدراسات القانونية التابع لجامعة الدول العربية
7 – دبلوم فى العلوم السياسية من كلية الحقوق جامعة القاهرة
8 - ماجستير فى الفقه الإسلامى وأصوله من كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر
9 – دكتوراه فى الفقه الإسلامى وأصوله من كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر
أما المناصب التى شغلها فكان آخرها عميدا لكلية الشريعة بجامعة دمشق ، ثم أستاذا للفقه الإسلآمى المقارن وأصول الفقه بكلية الشريعة ، قسم الدكتوراه بالجامعة الأردجنية.
ومن أهم الكتب التى كتبها ، وهى تعتبر من أعظم وأقيم الكتب التى كتبت فى مواضيعها هى:
1 - نظرية التعسف فى إستعمال الحق
2 – الحق ومدى سلطة الدولة فى تقييده
3 – خصائص التشريع الإسلآمى فى السياسة والحكم
4 – المناهج الأصولية فى الإجتهاد بالرأى فى التشريع الإسلآمى
مثل هذا الرجل لآ يلقى تأييدا من مشايخ السعودية ، ولآ يلقى دعما ماديا منهم ، وليس لديه إمكانية ولآ رغبة أصلآ فى عمل قناة فضائية ، وليس لذلك أهمية عنده ، فالرجل لم يسعى لأن يكون له أتباع و حملة بخور ينشرون فتاويه على الملأ.
وليس هذ هو العالم الوحيد من أبناء العرب الذين جمعوا بين العلوم الشرعية والعلوم التى تسمى غير شرعية ، فأن منهم الكثير ، ولكن العصور النحسة جعلت من القطط أسودا ، ومن الأقزام عمالقة.
والحمد لله رب العالمين
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألآ إله إلآ أنت أستغفرك وأتوب إليك
ناجى الزين