لقد ذكرت فى مقال بعنوان "دوافع الثورة المصرية ومستقبلها" أن الثورة المصريه ليس لها منطلق إيدلوجى ، أو بمعنى آخرليس لها منطلق فكرى أو تصور دينى إنطلقت منه و يراد تحقيقه ، ولكن دوافعها نبعت من الواقع الظالم الفاسد الذى عم ظلمه حتى شمل كل فئات الشعب ، فأدى الأحساس بهذا الظلم إلى ثورة الشعب المصرى وفى مقدمتهم شباب مصر الذى كان إحساسه بالظلم اكثر رفاهة من غيرهم.
ولأن دوافع هذه الثورة أتت من عالم الواقع وليس من عالم الفكر ، لذلك فليس هناك تصور واضح عن الأسس النظرية التى ينبغى أن تقوم عليها دولة المستقبل.
وفى هذا الفراغ الفكرى سيظهر آلآف الخبراء الذين يمكنهم الحديث فى كل شيئ وعن كل شيئ ، بعلم أو بغير علم ، ولذلك سوف يدب الخلآف بين الجميع ، فكل منهم يعتقد أن رأيه هو عين الصواب الذى ينبغى أن يسود ويطغى على كل الآراء الأخرى.
وبسبب عدم وضوح الأساس النظرى الذى ينبغى أن تقوم عليه الدولة فى المستقبل ، لم يكن ، وليس واضحا ، ما الذى يجب عمله فى دستور النظام الراحل :
هل يتم ترقيعه وتغيير بعض مواده ، أم أن الدستور سقط مع سقوط النظام الذى صنعه "على مقاسه"؟
ولم يُـلغى الدستور القديم بل ظل قائما مع تغيير بعض مواده فقط.
لماذا؟ لم يجب أحد على هذا السؤال.
والآن ينبغى للشعب أن يدلى برأيه فى هذه التغيرات : بلآ أو نعم ، كما كان يحدث فى العهد السابق.
فمن أراد أن يقول لآ ، لآ يعرف بالضبط لماذا عليه أن يرفض التعديل.
ومن أراد أن يقول نعم ، لآ يعرف أيضا لماذا عليه أن يقبل التعديل.
ولأن الأمر يتعلق بأعوص مسائل الفقه الدستورى ، فلم يظهر والحمد لله هذا الجيش الهائل من الخبراء ، ولكن تطوعت فئات من الشعب وبعض الشخصيات العامه تنصحنا بقبول التعديل ، وأخرى تنصحنا برفضه.
ولأن هذا النظام القديم قد تغير ، والناس قد سأمت قول لآ أو نعم بدون فهم الأسس التى بنيت عليها ، فقد حاولت كل فئة أن تشرح لنا الأساس الذى دعاها لترجيح أحد هذه الآراء : لآ او نعم.
ولكل وجهة نظره ولكل رأى وجاهته و جوانبه الحسنة مما أوقع المواطن فى حيرة : ماذا يقول؟ أيقول نعم أم يقول لآ .
وليس هذا فقط ، بل أن هناك من يطالبنا أصلآ بعدم إجراء الإقتراع و تأجيله لحين وضع دستور جديد ، ويتسائل هذا البعض: لما لم يوافق المجلس الأعلى للقوات المسلحة على وضع دستور جديد بدلآ من ترقيع الدستور القديم ، ولماذا لم يقدم لنا المجلس مبرر مقنع لذلك.
المبرر الذى تردد هو أننا نمر بفترة إنتقاليه ولذلك نحتاج إلى بعض المواد الدستورية التى تسمح لنا بإنشاء المؤسسات السيادية ، مجلس الشعب ومجلس الشورى و إنتخاب رئيس للجمهورية ، وسوف تقوم هذه المؤسسات بعمل التغييرات المطلوبه فيما بعد ، فنحن نمر بفترة إنتقالية.
وهو مبرر لم يقتنع به عدد كبيرا من فئات الشعب ، ثم أنهم لم يفهموا لماذا لآ يتم وضع دستور جديد ، فيصبح عملآ ثابتا صلبا تقوم على أساسه هذه المؤسسات بشكل صلب ، حتى لو طالت مدة المجلس الأعلى من ستة أشهر إلى سنة.
إذا فأصبح لدينا أراء مختلفه:
رأى يقول بالإقتراع فى الميعاد المحدد على التغييرات الدستوريه
ورأى يقول بتأجيل الإقتراع وعمل دستور جديد
ومن رأى أن الإقتراع قادم لآ محالة فمنهم من ينصح بالموافقة على التعديل ومنهم من يقول بأن عدم الموافقة أجدى وأفضل.
وهكذا نرى أنفسنا أمام أول مشكلة خلآفية ، ولن تكون المشكلة الأخيرة ، فالأمور العقلية لآ يمكن أن يتفق عليها كل الناس ، أى لآ يمكن أن نصل لإجماع عليها ، وليس هناك حل إلآ الإقتراع.
والإقتراع إذا كان نزيها وغير مزور كما إعتدنا ، فسوف يتبين لنا عدد الموافقين وعدد الرافضين ، وسوف نضطر للتفكير فى موضوع الأغلبية والأقلية ، وسوف يقول لنا البعض أن الدستور الموضوع من البشر بدعة ، وأنه لآ دستور إلآ القرآن ، وسوف يقول آخرون أن هذا تحكيم للبشر والحكم لله وحده .
وإذا إستطعنا إقناعهم بأن دولة الرسول فى المدينة قامت على دستور وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفه قائدا وليس بوصفه رسول لله ، فلم ينزل بالدستور وحى ، إنما إستوحاه رسولنا الكريم مما علمه الله وما فهمه من القرآن ، وإذا إستطعنا إقناعهم بأن رأى الأغلبية كان معمولآ به حتى فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا الرأى سار الخلفاء الراشدون ، فهل سنستطيع إقناعهم بقبول رأى الأغلبية وما قررته وعدم الإعتراض عليه فى المستقبل والتشكيك فيه؟
وهكذا سوف يجد المجتمع نفسه داخلآ فى خضم الديمقراطية شاء أم أبى.
فهل سيبقى رأى من يقولون بأن الديمقراطية كفر ، والإنتخابات حرام ، وأن الديمقراطية شيى والشورى شيئ آخر ، على ماهو عليه؟ ام سيضطرون تحت ضغط الواقع إلى إعادة التفكير فى هذه المسائل. وإذا سألناهم وما الشورى؟ فسوف يقولون لنا الشورى هى النظام الأسلآمى؟ وإذا قلنا لهم حسنا وكيف تطبق فى الواقع؟ فسوف يقولون : أصحاب الشورى هم أهل الحل والعقد ، فإذا سألناهم: ومن هم أصحاب الحل والعقد ومن يختارهم؟ فسوف يقولون لنا : الأمير هو الذى يختارهم ، وسوف يذكرونا بأن الشورى له معلمة وليست ملزمة ، وإذا سألناهم ومن الأمير؟ قالوا الحاكم الأعلى للدولة الذى عليه أن يقرر فى كل شيئ ، وإذا سألناهم ومن يختاره؟ وما هى شروطه؟ وما هى صلآحياته؟ ، وكيف نتخلص منه إذا ثبتت عدم صلآحيته وهو الذى يملك إصدار الأوامر للشرطة والجيش ولديه كل وسائل البطش؟ فسوف يقولوا لنا عليكم بطاعة الأمير فى المنشط والمكره وإن ضرب ظهرك ونهب مالك.
وهكذا سوف ندخل فجأة فى خضم من الأسئلة النظرية التى لم نفكر فى إجابة لها فيما سبق ، لأنه لم يكن لدينا تصور واضح عن الأسس التى ينبغى أن تقوم عليها دولة فى بداية القرن الواحد والعشرون يقول دستورها بأن دين الدولة هو الإسلآم والشريعة الإسلآمية هى المصدر الأساسى للقوانين. ثم أن هناك الكثير الذى لم يتعود على أدب للحوار ولم يتعلم أسس التخاطب.
وقد ظهر بيننا فعلآ من يطالب بإلغاء هذه المادة من الدستور ، ويتصورون أنه بإلغاء هذه المادة فقد تخلصنا من عناء الإجابة عن السؤال الأساسى وهو الأسس التى ينبغى أن يقوم عليها الدولة والمجتمع.
وبوسعنا أن نتصور الصراع الذى سينشأ مع العلمانيين واليساريين وغير المسلمين ، ولن تصمد محاولة وضع "المصرية" كعنوان رئيسى للمجتمع الذى نعيش فيه أمام كل هذه التحديات.
وكل هذا ونحن فى وضع يفرض علينا أن نجد حلآ لمشاكلنا العملية الملحة ، فسوف نكون كالطالب الذى يريد أن "يذاكر" المادة التى يمتحن فيها وهو جالس فى قاعة الأمتحان.
وفى جميع الأحوال فسوف نرى بوضوح ترجمة لقول الله تعالى :
" وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"
فسوف تستمر عملية المخاض فى عالم تغيير تغيرا جذريا عن عصر المدارس الفقهية التقليديه ، لينتج لنا فقه جديد يثبت ان الشريعة الإسلآمية صالحة لكل زمان ومكان.
والأمر يحتاج إلى بعض المعاناة ، كمعانات إمرأة تضع مولودا جديدا.