هذا المقال القصير يحاول الإجابة على ثلآث أسئلة:
الأول: ماهى دوافع العمل السياسى؟
الثانى: وما هى المشكلة المرتبطة بهذه الدوافع؟
الثالث: وما هو الحل المقترح؟
وهذه الثلآث أسئلة تبدوا كأنها أسئلة بسيطة ، ولكنها فى الحقيقة من صميم علم السياسة ، والإجابة عليها تشغل الكثير من العلماء على مر العصور، كما أن الأجابة عليها هى الأساس لأغلب ، إن لم يكن كل النظريات السياسية فى السياسة والحكم.
مقدمة:
وقبل أن أبدأ لآبد من توضيح أن كثيرا من العلوم فى مجال الدراسات الإنسانية هى علوم تعتمد على الخبرة الإنسانية وملآحظة الواقع الإنسانى ، ولذلك يطلق عليها فى اللغة الألمانية مصطلح يمكن أن نسميه "علوم خبروية" ، ونسبة هذه الخبرة للعلم هى أننا نحاول بطرق علمية جمع الخبرات الجزئية على مدار فترة طويلة من الزمن بشكل منظم ، ونقوم بتنسيقها فى منظومة واحدة حتى نستطيع فهمها الفهم السليم ، وحتى يمكنا تطبيق ما يسمى علميا بالطريقة الإستقرائية ، وهى الخروج بنتيجة عامة بناءا على ما إكتسبناه من المعرفة عن ومن هذه الجزئيات ، وبالتالى الخروج بنتيجة تساعدنا على فهم الواقع والتعامل معه بشكل أفضل ، حتى نستطيع إتخاذ إجرائات سليمة لتشيكيل المستقبل على وجه صحيح.
وأرانى مضطرا لضعط الإجابة وإختصارها بشكل كبير ، حتى لآ يتسع الموضوع بشكل لآ يناسب هذه الصفحة ، آملآ أن ينشأ عند القراء رغبة فى توضيح أو نقاش بعض النقاط ، فتتاح الفرصة لتوضيحها بشكل أفضل.
فأقول والله المستعان:
ثبت بالإستقراء أن الغالبية العظمى ، إن لم يكن كل البشروبشكل عام ، يسعون الى الحصول على:
1- السلطة
2- المكسب
3- أو كلآهما معا فى أغلب الأحوال
وهذه هى دوافع النشاطات الإنسانية العامة ، وهى تتضح بشكل خاص كدوافع للعمل للسياسى فى جميع العصور وفى جميع الدول وينطبق هذا على كل المنظمات ، دينية كانت أو غير دينية ، وهى الحقيقة وراء كل الإدعات وكل الوعود وعلى كل المستويات.
ونبدأ الآن فى تعريف السلطة والمكسب
1- السلطة :
أسهل تعريف للسلطة هو تعريف لعالم الإجتماع الألمانى "ماكس فيبر" يمكن تلخيصه فى جملة بسيطة:
وهى أن السلطة هى قدرة الفرد أو الجماعة على تنفيذ ما يريده أو ما يراه .
فالسلطة هنا تعنى القدرة على التنفيذ إوجعل أو إجبار الغير بأى طريقة من الطرق على تنفيذ مايراه هذا الفرد أو هذه الجماعة أو هذا الحزب. ولو أن كل منا فكر قليلآ فى نفسه أو محيطه أو عمله ، لأستطعنا فهم ما قلت بدون عناء كبير.
ولكلمة "السلطة" معان كثيرة منها ، كما جا فى القاموس المحيط للفيروزأبادى ، الحجة ، وقدرة الملك والوالى ، والتسليط بمعنى التغلب وإطلاق القهر والقدرة . ومنها السليط بمعنى الشديد ، واللسان الطويل يقال له سليط ، وطويل اللسان من الناس يقال له إنسان سليط . وقد جاءت كلمة سلطان (بضم النون) فى القرآن الكريم أربعة وعشرين مرة ، وكلمة سلطانا إحدى عشر مرة والكلمات سلطانه وسلطانيه كل منها مرة واحدة.
وأول مخلوق سعى للحصول على السلطة هو إبليس اللعين كما ذكر الله تعالى فى سورة الإسراء:
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا
ولنتفكر قليلآ فى الآية التالية حتى نفهم معنى السلطة ولنرى نتيجة السلطة إن لم يكن هناك معارضة لها أو إن لم يتم وضعها فى إطار محدد ، أو كما يقال فى علم السياسة "تقييد السلطة" :
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
مقدمة ونتيجتها:
ولأن الله تعالى يقرر فى الآيات التالية أن كل إنسان يحمل بين جنبيه نفس يمكن أن تكون نفس تقية أو تكون نفس فاجرة حيث قال: " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان يجرى من بن آدم مجرى الدم من العروق" أو كما قال
يمكننا أن نستنتج أن كل إنسان يمكن أن يكون ساعيا للحصول على السلطة كما حاول إبليس الحصول عليها ، بل إن الإحتياط لآبد أن يجعلنا أن نفترض أن كل إنسان يسعى الى ذلك.
المشكلة الأولى:
وبذلك أكون قد أشرت إلى أولى المشاكل المتعلقة بالسلطة السياسية أو محاولة الوصول إليها. وهذه يترتب عليها أسئلة كثيرة سأقتصر على إحداها وهو:
لماذا يسعى الإنسان للحصول على السلطة السياسية؟
وخاصة أنه قد ثبت أن من يسعى إلى السلطة فإنه فى الحقيقة يريد ويحاول دائما:
1- الحصول على السلطة
2- المحافظة عليها
3- توسيع نطاق سلطته
والإجابة عن ذلك هى أنه يسعى للحصول على مكسب ،
وبذلك نأتى إلى
2- تعريف المكسب
المكسب هو الحصول على شيى مفيد أو الإزدياد منه. وتجنب الخسارة معناه الإحتفاظ بما عنده وهو نوع من المكسب
والمكسب إما أن يكون شيئا ماديا يمكن أن يتحول الى مال أو يدر مالآ ، والمال هنا هو كل شيى يمكن أن يتحول إلى درهم ودينار. وإما أن يكون شيئا معنويا.
والمكسب المعنوى يمكن أن يكون مكسبا دنيويا أو مكسبا أخرويا أو كلآهما معا.
المكسب الدنيوى هو مثلآ الشهرة ومدح الناس ورضاهم ، والمكسب الأخروى هو رضاء الله تعالى ومرضاته وبالتالى الجزاء الحسن.
والدليل أن الإنسان يسعى لهذا المكسب وضح فى طلب إبليس الذى يريد أن يثبت أنه أفضل من أدم حيث خلق الله أدم من صلصال وإبليس من نار ولذلك رفض أن يسجد لأدم الذى فضله الله على هذا اللعين. وإذا أعترض معترض على مقارنة الأنسان بإبليس فيما ذكرت ، فيمكن أن نجد الدليل فى قول الله تعالى: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر" ، وهناك آيات أخرى ولكن فى الآية السابقة ما يكفى من دليل.ومع ذلك يمكننا أيضا أن نكتسب دليلآ أكثر وضوحا من قول الله تعالى :
" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ "
فنحن نرى هنا أن الله تعالى قد خاطب البشر ، والله تعالى أعلم بهم ، بلغة يفهموها جيدا ، وهى لغة التجارة التى لآ تعرف إلآ المكسب والخسارة . وأكتفى الله تعالى بعد أن بين ماهية هذه التجارة بذكر المكسب: أولآ فى الآخرة ، وثانيا فى الدنيا ، لأن مكسب الآخرة هو الأهم ، ولم يذكر ربنا تعالى الخسارة لأن فى تضييع هذا المكسب الذى ذكره تعالى خسارة كبرى ، وهذا نصل إليه من مفهوم الخطاب.
المشكلة الثانية:
وهنا أكون قد أشرت الى المشكلة الثانية المرتبطة بالسعى إلى أو الحصول على السلطة السياسية ،
والمشكلة هنا بالتحديد
هى أن كل من يريد أن يحصل على السلطة السياسية ، من أقل إلى أعلى المستويات يقول: إنه لآيريد إلآ مصلحتنا وفائدتا ويؤكد بشدة أنه لآ يسعى لمصلحة شخصية بأى حال من الأحوال وكل ما يصبوا اليه هو مصلحة المجتمع أو مصلحة دائرته الإنتخابية.
ومشكلتنا نحن أننا:
1- لآ نستطيع ولآ يجوز لنا أن نحكم على نية أى إنسان فهذا شيئ لآ يعلمه إلآ الله
2- لآبد أن نفترض النية الحسنة فى كل إنسان ، بنا على القاعدة الإسلآمية :"الأصل فى الذمة البراءة" ، أى أننا لابد أن نفترض فى المرشح البراءة من كل شبهة.
وقد رأينا ونرى أن الواقع يأتى بالكثير من الذين يعدوننا بكل شيئ صالح وجميل قبل إنتخابهم ، حتى إذا إنتخبوا أثبتوا واقعيا غير ما كانوا يقولون بل ربما يكون الواقع عكس ذلك تماما.
فماذا نفعل؟
الحل بسيط:
وهو ألآ نجعل لنية الإنسان أى دور فى مسألة الترشيح لشغل أى منصب سياسى مهما كان. يعنى أن نخرج النية من اللعبة السياسية.
فما معنى ذلك؟
معناه أن كل مرشح لآ بد أن يتخلى عن لغة الوعود ، وأننا لآبد أن نرفض هذه اللغة. وعلى كل مرشح مهما كان أن يبين لنا:
1- ماذا يريد أن يقدم؟
2- كيف؟
3- وهل لديه الأمكانية لتحقيق ما يقول؟
فإذا قررنا إنتخاب شخص ما وحصل على السلطة ، وقد رأينا أن كل إنسان يحاول بعد حصوله على السلطة ، ليس فقط الإحتفاظ بها بل يحاول توسيع نطاق هذه السلطة ،
فماذا نفعل إذا رأينا أنه لآ يستطيع أو ليس لديه القدرة على تنفيذ برنامجه؟
الحل هو:
1- أن نحد من سلطته بأن تكون هناك سلطات أخرى مستقلة عن سلطته ولآ يستطيع التأثير عليها حتى نصل إلى ما يسمى "توازن السلطات"
2- لآ بد أن يكون هناك دستور نحتكم إليه
3- أن يكون هناك محكمة دستورية نحتكم إليها فى حالة ما أصدرت قوانين نرى أنها لآ تتفق مع هذا الدستور
4- لآبد من تحديد زمن ممارسة السلطة
5- لآبد أن يكون هناك إنتخابات دورية سرية ، حرة ونزيهة
فمن رأيناه صالحا إنتخبناه مرة أخرى ومن رأيناه غير صالح إنتخبنا غيره
والله تعالى أعلم